سورة السجدة - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (السجدة)


        


يقول الحق جل جلاله: {ولنذيقنَّهم من العذاب الأدنى} أي: عذاب الدنيا؛ من القتل، والأسر في بدر، أو ما مُحنوا به من السَّنَةِ، سَبْعَ سنين. {دون العذاب الأكبر} أي: قبل عذاب الآخرة، الذي هو أكبر، وهو الخلود في النار. وعن الداراني: العذاب الأدنى: الخذلان، والعذاب الأكبر: الخلود في النيران. وقيل: الأدنى: عذاب القبر، والأكبر: النار. {لعلهم يرجعون}؛ يتوبون عن الكفر.
{ومن أظلم} أي: لا أحد أظلم {ممن ذُكِّر} أي: وُعظ {بآياتِ ربه}؛ القرآن، {ثم أعرض عنها} اي: تولى عنها، ولم يتدبر في معناها. و {ثم}؛ للاستبعاد؛ فإن الإعراض عن مثل هذه في ظهورها، وإنارتها، وإرشادها إلى سواء السبيل، والفوز بالسعادة العظمى، بعد التذكر بها، مُسْتَبْعَدٌ في العقل، كما تقول لصاحبك: وجدت تلك الفرصة ثم لم تنتهِزْها-؛ استبعاداً لتركه الانتهاز. {إنا من المجرمين منتقمون}، ولم يقل: منه، تسجيلاً عليه بإعراضه بالإجرام، ولأنه إذا جعله أظلم مِنْ كل ظالم، ثم توعد المجرمين، عامة، بالانتقام، دلّ على إصابة الأظلم أوفَرُ نصيب الانتقام، ولو قال بالضمير لم يفد هذه الفائدة.
الإشارة: ولنذيقن أهل الغفلة والحجاب، من العذاب الأدنى، وهو الحرص والطمع والجزع والهلع، قبل العذاب الأكبر، وهو غم الحاجب وسوء الحساب. قال القشيري: قومٌ: الأدنى لهم: مِحَنُ الدُنيا، والأكبر: عقوبة العُقبى. وقومٌ: الأدنى لهم: فترةٌ تُداخلهم في عبادتهم والأكبر: قسوةٌ تُصيبهم في قلوبهم. وقومٌ: الأدنى لهم: وقفة مع سلوكهم تمسهم. والأكبرُ: حَجْبَةٌ عن مشاهدتهم بسرهم- قلت: الأول في حق العوام، والثاني: في حق الخواص، وهم العباد والزهاد. والثالث: في حق أهل التربية من الواصلين- ثم قال: ويقال: الأدنى: الخذلان في الزلة، والأكبر: الهجران في الوصلة. ويقال: الأدنى: تكدّرُ مَشَارِبِهم، بعد صفوها، والأكبر: تَطَاوُلُ أيامِ الحَجْب، من غير تبيين آخرها. وأنشدوا:
تَطَاوَلَ بُعْدُنَا يا قومُ حتى *** لقد نَسَجَتْ عليه العنكبوتُ
. اهـ. ببعض المعنى.
أذقناهم ذلك؛ لعلهم يرجعون إلى الله، في الدنيا؛ بالتوبة واليقظة. فإن جاء من يُذكِّرهم بالله؛ من الداعين إلى الله، ثم أعرضوا عنه، فلا أحد أظلم منهم، ولا أعظم جُرماً. إنا من المجرمين منتقمون.


يقول الحق جل جلاله: {ولقد آتينا موسى الكتابَ}؛ التوراة {فلا تكن في مِرْيةٍ}؛ شك {من لقائه}؛ من لقاء موسى الكتاب، أو: من لقائك موسى ليلة المعراج، أو: يوم القيامة، أو: من لقاء موسى ربَّه في الآخرة، كذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، {وجعلناه هدى لبني إسرائيل}؛ وجعلنا الكتاب المنزَّل على موسى عليه السلام هُدىً لقومه {وجعلنا منهم أئمةً يَهْدُون} الناس، ويدعون إلى الله وإلى ما في التوراة من دين الله وشرائعه، {بأمرنا} إياهم بذلك، أو بتوفيقنا وهدايتنا لمن أردنا هدايته على أيديهم، {لمّا صبروا} على مشاق تعليم العلم والعمل به. أو: على طاعة الله وترك معصيته. وقرأ الأَخَوَان: بكسر اللام، أي: لصبرهم عن الدنيا والزهد فيها. وفيه دليل على أن الصبر؛ ثمرته إمامة الناس والتقدم في الخير. {وكانوا بآياتنا}؛ التوراة {يُوقنون}؛ يعلمون علماً لا يخالجه شك ولا وَهْم؛ لإمْعانِهم النظر فيها، أو هِبَةٌ من الله تعالى: {إن ربك هو يَفْصِلُ}؛ يقضي {بينهم يومَ القيامة} أي: بين الأنبياء وأممهم، أو: بين المؤمنين والمشركين، {فيما كانوا فيه يختلفون} من الدين، فيظنه المُحِقُّ من المبطل.
الإشارة: أئمة الهدى على قسمين: أئمة يهدون إلى شرائع الدين، وأئمة يهدون إلى التعرف بذات رب العالمين، أئمة يهدون إلى معرفة البرهان وأئمة يهدون إلى معرفة العيان. الأولون: من عامة أهل اليمين، والآخرون: من خاصة المقربين. الأولون صبروا على حبس النفس على ذل التعلم، والآخرون صبروا على حبس النفس على الحضور مع الحق على الدوام. صبروا على مجاهدة النفوس، حتى وردوا حضرة القُدُّوس. قال القشيري، في شأن القسم الثاني: لمّا صبروا على طلبنا؛ سَعِدوا بوجودنا، وتعدّى ما نالوا من أفضالنا إلى متَّبِعِيهم وانبسط شعاعُ شموسهم على جميع أهلِيهم، فهم للخلق هُداةً، وفي الدين عيون، وللمسترشدين نجوم. اهـ.
وفي الإحياء: للإيمان ركنان: أحدهما اليقين، والآخر: الصبر: والمراد باليقين: المعارف القطعية، الحاصلة بهداية اللهِ عَبْدَهُ إلى أصول الدين، والمراد بالصبر، العمل بمقتضى اليقين؛ إذ النفس تعرف أن المعصية ضارة والطاعة نافعة. ولا يمكن ترك المعصية والمواظبة على الطاعة إلا بالصبر. فيكون الصبر نصف الإيمان لهذا الاعتبار. اهـ. وقوله تعالى: {إن ربك هو يفصل بينهم..} قال القشيري: يحكم بينهم، فيُبين المقبول من المردود، والمهجور من الموصول، والرّضي من الغَويّ، والعدو من الوليّ. فكم من بَهجةٍ دامت هناك! وكم من مهجةٍ ذابت كذلك. اهـ.


قلت: فاعل {يهد}: هو الله، بدليل قراءة زيد عن يعقوب {نهد} بالنون، ولا يجوز أن يكون الفاعل، {كم}؛ لأن الاستفهام له صدر الكلام، فلا يَعْمَلُ فيه بما قَبْله.
يقول الحق جل جلاله: {أَوَ لَمْ يَهْدِ لهم} أي: يُبين لهم الله تعالى ما يعتبرون به، فينظروا {كم أهلكنا مِن قبلهِم من القرون}؛ كعاد وثمود، وقوم لوط، {يمشون} يعني: قريشاً، {في مساكنهم} حين يمرون على ديارهم، ومنازُلُهمْ، خاوية، في متاجرهم إلى الشام، {إن في ذلك لآياتٍ} دالة على قدرتنا، وقهريتنا {أفلا يسمعون} المواعظ، فيتعظون بها؟.
الإشارة: قال القشيري: لم يعتبروا بمنازل أقوام كانوا في حَبْرَةٍ، فصاروا في عَبرةً كانوا في سرورِ، فآلوا إلى ثبور، فجميع ديارهم وتراثِهم صارت لأغيارهم، وصُنوفُ أموالهم عادت إلى أشكالهم، سكنوا في ظِلالهم، ولم يعتبروا بمن مضى من أمثالهم، وفي مثلهم قيل:
نِعَمٌ كانت على قو *** مٍ زمانا ثم فاتت
هكذا النعمةُ والإح *** سانُ قد كانت وكانت

1 | 2 | 3 | 4